فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كانت الرجل من موضع الانشعاب من الأسفل إلى آخرها، خص بقوله دالًا بالغاية على أن المراد الغسل- كما مضى في المرافق، لأن المسح لم يرد فيه غاية في الشريعة وعلى أن ابتداء الغسل يكون من رؤوس الأصابع، لأن القدم بعظم نفعه أولى باسم الرجل: {إلى الكعبين} وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، وثنى إشارة إلى أن لكل رجل كعبين، ولو قيل: إلى الكعاب، لفهم أن الواجب كعب واحد من كل رجل- كما ذكره الزركشي في مقابلة الجمع بالجمع من حرف الميم من قواعده، والفصل بالمسح بين المغسولات معلم بوجوب الترتيب، لأن عادة العرب- كما نقله الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذب عن الأصحاب- أنها لا تفعل ذلك إلاّ للإعلام بالترتيب، وقال غيره معللًا لما ألزمته العرب: ترك التمييز بين النوعين بذكر كل منهما على حدته مستهجن في الكلام البليغ لغير فائدة، فوجب تنزيه كلام الله عنه أيضًا، فدلالة الآية على وجوب البداءة بالوجه مما لا مدفع له لترتيبها له بالحراسة على الشرط بالفاء، وذلك مقتضٍ لوجوب الترتيب في الباقي إذ لا قائل بالوجوب بالبعض دون البعض، ولعل تكرير الأمر بالغسل والتيمم للاهتمام بهما، وللتذكير بالنعمة في التوسعة بالتيمم، وأن حكمه باقٍ عند أمنهم وسعتهم كراهة أن يظن أنه إنما كان عند خوفهم وقلتهم وضيق التبسط في الأرض، لظهور الكفار وغلبتهم، كما كان المتعة تباح تارة وتمنع أخرى نظرًا إلى الحاجة وفقدها، وللإشارة إلى أنه من خصائص هذه الأمة، والإعلام بأنه لم يُرد به ولا بشيء من المأمورات والمنهيات قبله الحرج، وإنما أراد طهارة الباطن والظاهر من أدناس الذنوب وأوضار الخلائق السالفة، فقال تعالى معبرًا بأداة الشك إشارة إلى أنه قد يقع وقد لا يقع وهو نادر على تقدير وقوعه، عاطفًا على ما تقديره: هذا إن كنتم محدثين حدثًا أصغر: {وإن كنتم} أي حال القصد للصلاة {جنبًا} أي ممنين باحتلام أو غيره {فاطهروا} أي بالغسل إن كنتم خالين عن عذر لجميع البدن، لأنه أطلق ولم يخص ببعض الأعضاء كما في الوضوء.
ولما أتم أمر الطهارة عزيمة بالماء من الغسل والوضوء، وبدأ بالوضوء لعمومه، ذكر الطهارة رخصة بالتراب، فقال معبرًا بأداة الشك إشارة إلى أن الرخاء أكثر من الشدة: {وإن كنتم مرضى} أي بجراح أو غيره، فلم تجدوا ماء حسًا أو معنى بعدم القدرة على استعماله وأنتم جنب {أو على سفر} طويل أو قصير كذلك، ولما ذكر الأكبر أتبعه الأصغر فقال: {أو جاء أحد منكم} وهو غير جنب {من الغائط} أي الموضع المطمئن من الأرض وهو أي مكان التخلي، أي قضيتم حاجة الإنسان التي لابد له منها، وينزه الكتاب عن التصريح بها لأنها من النقائص المذكِّرة له بشديد عجزه وعظيم ضرورته وفقره ليكف من إعجابه وكبره وترفعه وفجره.
كما ورد أن بعض الأمراء لقي بعض البله في طريق فلم يفسح له، فغضب وقال: كأنك ما تعرفني؟ فقال بلى والله! إني لأعرفك، أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة.
ولما ذكر ما يخص الأصغر ذكر ما يعم الأكبر فقال: {أو لامستم النساء} أي بالذكر أو غيره أمنيتم أولا {فلم تجدوا ماء} أي حسًا أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره {فتيمموا} أي اقصدوا قصدًا متعمدًا {صعيدًا} أي ترابًا {طيبًا} أي طهورًا خالصًا {فامسحوا}.
ولما كان التراب لكثافته لا يصل إلى ما يصل إليه الماء بلطافته، قصَّر الفعل وعدَّاه بالحرف إشارة إلى الاكتفاء بمرة والعفو عن المبالغة، وبينت السنة أن المراد جميع العضو، فقال: {بوجوهكم وأيديكم منه} أي حال النية التي هي القصد الذي هو التيمم، ثم أشار لهم إلى حكمته سبحانه في هذه الرخصة فقال مستأنفًا: {ما يريد الله} أي الغنى الغنى المطلق {ليجعل عليكم} وأغرق في النفي بقوله: {من حرج} أي ضيق علمًا منه بضعفكم، فسهل عليكم ما كان عسره على من كان قبلكم، وإكرامًا لكم لأجل نبيكم صلى الله عليه وسلم، فلم يأمركم إلا بما يسهل عليكم ليقل عاصيكم {ولكن يريد ليطهركم} أي ظاهرًا وباطنًا بالماء والتراب وامتثال الأمر على ما شرعه سبحانه، عقلتم معناه أو لا، مع تسهيل الأوامر والنواهي لكيلا يوقعكم التشديد في المعصية التي هي رجس الباطن {وليتم نعمته} أي في التخفيف في العزائم ثم في الرخص، وفي وعدكم بالأجور على ما شرع لكم من الأفعال {عليكم} لأجل تسهيلها، ليكون فعلكم لها واستحقاقكم لما رتب عليها من الأجر مقطوعًا به، إلا لمن لج طبعه في العوج، وتمادى في الغواية والجهل والبطر {لعلكم تشكرون} أي وفعل ذلك كله.
هذا التسهيل وغيره ليكون حالكم لما سهل عليكم حال من يرجى صرفه لنعم ربه عليه في طاعته المسهلة له المحببة إليه. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى افتتح السورة بقوله: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية، فقوله: {أَوْفُواْ بالعقود} طلب تعالى من عباده أن يفوا بعهد العبودية، فكأنه قيل: إلهنا العهد نوعان: عهد الربوبية منك، وعهد العبودية منا، فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإحسان.
فقال تعالى: نعم أنا أوفي أولًا بعهد الربوبية والكرم، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين: لذات المطعم، ولذات المنكح، فاستقصى سبحانه في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح، ولما كانت الحاجة إلى المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح، لا جرم قدم بيان المطعوم على المنكوح، وعند تمام هذا البيان كأنه يقول: قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات، فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة، وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلاّ بالطهارة، لا جرم بدأ تعالى بذكر شرائط الوضوء فقال: {يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عاشور:

إذا جرينا على ما تحصحص لدينا وتمحّص: من أنّ سورة المائدة هي من آخر السور نزولًا، وأنّها نزلت في عام حجّة الوداع، جَزمنا بأنّ هذه الآية نزلت هنا تذكيرًا بنعمة عظيمة من نعم التّشريع: وهي منّة شرع التيمّم عند مشقّة التطهُّر بالماء، فجزمنا بأنّ هذا الحكم كلّه مشروع من قبْل، وإنَّما ذُكر هنا في عداد النّعم الّتي امتنّ الله بها على المسلمين، فإنّ الآثار صحّت بأنّ الوضوء والغسل شرعا مع وجوب الصّلاة، وبأنّ التيمّم شرع في غزوة المريسيع سنة خمس أو ستّ.
وقد تقدّم لنا في تفسير قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} في سورة النّساء (43) الخلاف في أنّ الآية الّتي نزل فيها شرع التيمّم أهي آية سورة النّساء، أم آية سورة المائدة.
وذكرنا هنالك أنّ حديث الموطأ من رواية مالك عن عبد الرحمان بن القاسم عن أبيه عن عائشة ليس فيه تعيين الآية ولكن سَمّاها آية التيمّم، وأنّ القرطبي اختار أنّها آية النّساء لأنّها المعروفة بآية التيمّم، وكذلك اختار الواحدي في «أسباب النّزول»، وذكرنا أنّ صريح رواية عمرو بن حُريث عن عائشة: أنّ الآية الّتي نزلت في غزوة المريسيع هي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية، كما أخرجه البخاري عن يحيى عن ابن وهب عن عمرو بن حريث عن عبد الرحمن بن القاسم، ولا يساعد مختارنا في تاريخ نزول سورة المائدة، فإن لم يكن ما في حديث البخاري سهوًا من أحد رواتِه غير عبدِ الرحمن بن القاسم وأبِيهِ، أراد أن يذكر آية {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتُم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون ولا جُنبًا إلاّ عابري سبيل حتّى تغتسلوا}، وهي آية النّساء (43)، فذكر آية {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية.
فتعيّن تأويله حينئذ بأن تكون آية {يا أيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة} قد نزلت قبل نزول سورة المائدة، ثُمّ أعيد نزولها في سورة المائدة، أو أمر الله أن توضع في هذا الموضع من سورة المائدة، والأرجح عندي: أن يكون ما في حديث البخاري وهمًا من بعض رواته لأنّ بين الآيتين مشابهة.
فالأظهر أنّ هذه الآية أريد منها تأكيد شرع الوضوء وشرع التيمّم خلفًا عن الوضوء بنصّ القرآن؛ لأنّ ذلك لم يسبق نزول قرآنٍ فيه ولكنّه كان مشروعًا بالسنّة.
ولا شكّ أنّ الوضوء كان مشروعًا من قبل ذلك، فقد ثبت أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لم يصلّ صلاة إلاّ بوضوء.
قال أبو بكر ابن العربي في «الأحكام»: لا خلاف بين العلماء في أنّ الآية مدنية، كما أنّه لا خلاف أنّ الوضوء كان مفعولًا قبل نزولها غير متلوّ ولذلك قال علماؤنا: إنّ الوضوء كان بمكّة سنّة، معناه كان بالسنّة.
فأمّا حكمه فلم يكن قطّ إلاّ فرضًا وقد روى ابن إسحاق وغيره أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لمّا فرض الله سبحانه عليه الصّلاة ليلة الإسراء ونزل جبريل ظُهْر ذلك اليوْم ليصلّي بهم فهمز بعقبه فانبعث ماء وتوضّأ معلِّمًا له وتوضّأ هو معه فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا صحيح وإنْ كان لم يروه أهل الصّحيح ولكنّهم تركوه لأنّهم لم يحتاجوا إليه. اهـ.
وقال ابن عاشور:
وفي «سيرة ابن إسحاق»: ثُمّ انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجةَ فتوضّأ لها ليريها كيف الطُهور للصّلاة كما أراه جبريل اهـ.
وقال ابن عاشور:
وقولهم: الوضوء سنّة روي عن عبد الله بن مسعود.
وقد تأوّله ابن العربي بأنّه ثابت بالسنّة.
قال بعض علمائنا: ولذلك قالوا في حديث عائشة: فنزلت آية التّيمّم؛ ولم يقولوا: آية الوضوء؛ لمعرفتهم إيَّاه قبل الآية.
فالوضوء مشروع مع الصّلاة لا محالة، إذ لم يذكر العلماء إلاّ شرع الصّلاة ولم يذكروا شرع الوضوء بعد ذلك، فهذه الآية قرّرت حكم الوضوء ليكون ثبوته بالقرآن.
وكذلك الاغتسال فهو مشروع من قبل، كما شرع الوضوء بل هو أسبق من الوضوء؛ لأنّه من بقايا الحنيفية الّتي كانت معروفة حتّى أيّام الجاهليّة، وقد وضّحنا ذلك في سورة النّساء.
ولذلك أجمل التّعبير عنه هنا وهنالك بقوله هنا {فاطَّهّروا}، وقوله هنالك {تغتسلوا} [النساء: 43]، فتمحّضت الآية لشرع التيمّم عوضًا عن الوضوء. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن المراد بقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} ليس نفس القيام، ويدل عليه وجهان:
الأول: أنه لو كان المراد ذلك لزم تأخير الوضوء عن الصلاة، وأنه باطل بالإجماع.
الثاني: أنهم أجمعوا على أنه لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعدًا أو مضطجعًا لكان قد خرج عن العهدة، بل المراد منه: إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك، وهذا وإن كان مجازًا إلا أنه مشهور متعارف، ويدل عليه وجهان: الأول: أن الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل، وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور.
الثاني: قوله تعالى: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} [النساء: 34] وليس المراد منه القيام الذي هو الانتصاب، يقال: فلان قائم بذلك الأمر، قال تعالى: {قَائِمًا بالقسط} [آل عمران: 18] وليس المراد منه ألبتة الانتصاب، بل المراد كونه مريدًا لذلك الفعل متهيئًا له مستعدًا لإدخاله في الوجود، فكذا هاهنا قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} معناه إذا أردتم أداء الصلاة والاشتغال بإقامتها. اهـ.

.قال الثعلبي:

{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} الآية، أمر اللّه تعالى بالوضوء عند القيام إلى الصلاة. واختلف العلماء في حكم الآية، فقال قوم: هذا من العام الذي أريد به الخاص. والمجمل الذي وكل بيانه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومعنى الآية: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر، يدلّ عليه ما روي عن عكرمة إنه سأل عن هذه الآية قال: أو كلّ ساعة أتوضأ؟ فقال: إن ابن عباس قال: لا وضوء إلاّ من حدث.